سيرة ذاتية – في موكب الدعوة -08-كلام الشيخ صالح الفوزان في ضوابط الفتوى واختلاف المفتين

استمع على الموقع

إقرأ

سيرة ذاتية – في موكب الدعوة -08-(كلام الشيخ صالح الفوزان في ضوابط الفتوى واختلاف المفتين)

- الشيخ صالح الفوزان-

"في موكب الدعوة"

: شيخ صالح حفظكم الله الفتوى في هذا العصر، بل في كل عصر أحوج ما يكون الناس إليها، وفي الوقت الحاضر شهد الكثير من الذين يتصدرون لمثل هذا الأمر وليسوا أهلًا لذلك، وأصبحت الفتوى في بحر يموج كلٌ يدلي بدوله بعلم أو بغير علم، هل هناك ضوابط يجب أن تضبط بها الفتوى لكي يسير كل واحد من المسلمين على نهج سوي وصحيح، ثم هذا التعدد في الفتوى ألا يمكن أن يُوجِد بلبلة لدى كثير من عامة المسلمين؟

 : لا شك أن أمر الفتوى أمر مهم، والحاجة إلى الفتوى حاجة ضرورية؛ لأن الناس بحاجة إلى من يجيبهم على تساؤلاتهم، وبحاجة إلى من يحل مشكلاتهم، وبحاجة إلى من يتناول قضاياهم، هم بحاجة إلى ذلك، ولكن لن يقوم بهذه المهمات إلا أهل العلم المختصون الفقهاء في دين الله عز وجل، فإذا قام بهذا الواجب وهذا العبء أهله من أهل العلم المختصين حصل المقصود، وحصل المطلوب، وانحلت المشكلات، إذا رجع الناس إلى أهل العلم وإلى أهل البصيرة، وقام أهل العلم وأهل البصيرة بالنظر بمشاكل الناس وتقديم الحلول لها على ضوء كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- حصل المطلوب وانحلت المشاكل، كما كان ذلك في عصر سلف الأمة لما كان الناس يرجعون إلى العلماء الراسخين كانت مشكلاتهم تنحل، كانت قضاياهم تحل ببساطة على ضوء كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والله أمر بذلك؛ قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فأمر الجهال بسؤال أهل العلم؛ لأن أهل العلم هم الذين يقدرون على إجابة الأسئلة الفقهية، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83] فأمر الناس عندما يحصل إشكال أو يحص أولي الأمر منهم، أهل الشأن والمنزلة، وهم أهل الرأي واهل الفقه، وأهل الخبرة والتجربة، فحينئذ يخرجون إلى نتيجة، نتيجة مرضية { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83] لكن حينما تكون الأمور فوضى ويتولى الإجابة كل ما هب ودب مما ينتسب إلى العلم وهو جاهل، أو من عنده علم وليس عنده عمل، وإنما يتبع هواه رغبة ورهبة الآخرين، وإرضاء الآخرين، حينئذ يحصل الفساد كما حصل لبني إسرائيل لما ضل رهبانهم وأحبارهم فأحلوا ما حرم الله، وأحلوا ما حرم الله، وأطاعهم عامة الناس هلك الجميع { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، فإذا صارت الأمور في أمور الفتوى وأمور العلم فوضى يجيب عليها الجُهَّال الذين لا علم عندهم، أو يجيب عليها أنصاف العلماء الذين لا يتبعون ما أنزل الله على رسوله وإنما يتبعون رغباتهم أو رغبات غيرهم، ويلتمسون للناس ما يرضيهم ولو بما يسخط الله عز وجل، فحينئذ يحصل الفساد في الأرض، وما هلكت بنو إسرائيل إلا بمثل هذا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]

فلا يجوز الرجوع إلى أهل الأهواء وأهل البدع، ولا الرجوع إلى الجُهَّال، وإنما يجب الرجوع إلى أهل العلم والعمل، أهل العلم الثابت والعمل الصلح.

وهذا هو الذي بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإن الله -سبحانه وتعالى- بعث رسوله بالهدى ودين الحق، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، فلابد من اجتماع الأمرين، العلم النافع والعمل الصالح، أما إذا انفرد أحدهما عن الآخر فكان علم بدون عمل هذا طريق أهل الضلال، أو كان علم بدون عمل فهذا طريق المغضوب عليهم، أو كان عمل بدون علم فهذا طريق أهل الضلال والله أمر أن نستعيذ بهم في الطريقة، طريق المغضوب عليهم وهم الذين عندهم علم وليس عندهم عمل، وطريق الضالين وهم الذين عندهم عمل وليس عندهم علم، وأمرنا باتباع طريق المُنعَم عليهم وهم الذين جمعوا بين العلم النافه والعمل الصالح، ولا تنضبط الفتوى إلا بهذا؛ بأن يتولاها أهل العلم الراسخ والعمل الصالح، فإذا اختل شرط من هذين الشرطين حصل الفساد في الأرض، ولن يقتصر فساد هؤلاء على أنفسهم أو على من أضلوهم وإنما يتناول هذا عامة الناس -ولا حول ولا قوة إلا بالله-، فهذا الأمر خطير والواجب التنبه له، والواجب على كل أحد حينما يُسأل أن يتقي الله -سبحانه وتعالى- فلا يتسرع إلا الجواب، فإن كان هناك من هو أعلم منه فليحل السؤال عليه، وكان السلف يتدافعون الفتوى -وهم على علم- لكن يريدون أن يتولاها من هو أكبر منهم وأوثق منهم، وهذا من ورعهم ومعرفتهم بصعوبة الموقف، الله -جل وعلا- يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، ويقول لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وإن كان ليس هناك من هو أعلم منه فعليه أن يتقي الله وأن يتحرى في إجابته ما ينجيه عند الله هو أولًا، ثم ينجي السائل أيضًا فيعتبر نفسه أول من يتناوله خطر الفتوى، ثم أيضًا يرحم السائلين، ويرحم الناس من أن يوقعهم في الضلال ويقودهم إلى الغواية إما لمحبته للشهرة، وإما لمحبته لعرض دنيوي، فعليه أن يتقي الله -سبحانه وتعالى-، وأن يحترم الفتوى والقول على الله -سبحانه وتعالى- فإن الله جعل القول عليه بغير علم فوق الشرك، قال -سبحانه وتعالى-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]

 فجعل القول على بدون علم فوق منزلة الشرك؛ لأن الشرك جزء من القول على الله بغير علم، وقال سبحانه: { لَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117].

شارك